مع استمرار التحقيقات الداخلية في التفجير الذي تعرّض له ميناء «رجائي»، في مدينة بندر عباس جنوبي إيران، تذهب بعض التقديرات إلى ترجيح فرضية أن يكون ما جرى عملاً أمنيّاً مدبّراً، انطلاقاً من أنه وقع في ظلّ المفاوضات الإيرانية – الأميركية، وفي نفس يوم انعقاد الجولة الثالثة منها، في مسقط. على أن الموضوعية والمهنية تفترضان الأخذ بالاحتمالات كافة، باعتبار أن أيّ حُكم في أيّ اتّجاه، مرهون بتوفّر معطيات جدّية وحاسمة في صالحه.
ومع ذلك، يمكن توظيف الحدث على أكثر من مستوى للتصويب على النظام الإسلامي، في الداخل كما في الخارج؛ علماً أن ثمة احتمالاً يفيد بألّا تكون الأجهزة المعنية في إيران قد توصّلت بعد إلى نتائج قطعية حول أسباب التفجير، وإنْ كان السبب الأشدّ خطورة من بين كل الفرضيات المطروحة، عملاً تخريبياً تقف خلفه إسرائيل.
وعادةً ما يختار العدو، في مثل هذه السياقات، استهدافات تتّصل بالبرنامجَين النووي أو الصاروخي والعسكري، بحيث يحقّق أيضاً أهدافاً مطلوبة بذاتها، كما حصل في تفجير منشأة «نطنز» (11/4/2021) وغيرها، لدى انعقاد مفاوضات فيينا لإعادة إحياء الاتفاق النووي لعام 2015. ووقتها، تمكّنت إيران من احتواء نتائج التفجير، وردّت عليه برفع مستويات التخصيب إلى 60%، لتفرض واقعاً نوويّاً جديداً وضعها في موقع أقوى على طاولة التفاوض. ويهدف حريق «رجائي»، في ما لو كان فعلاً استخباريّاً، إلى إضفاء مصداقية على التهديدات التي يتمّ التلويح بها، وإفهام طهران أن البديل من الاتفاق هو الخيار العسكري والأمني، وأن الضربات التي ستتعرّض لها الجمهورية الإسلامية، تتجاوز برنامجها النووي إلى منشآتها الاقتصادية.
وبالنسبة إلى السياق والتوقيت، يرمي التفجير أيضاً إلى مآذارة ضغوط على صانع القرار السياسي في طهران، بما يدفعه إلى تقديم تنازلات. لكن، وفي حال كان العمل احترافياً بمستوى لا يترك منفذوه أيّ بصمات خلفهم تشير إلى كون فعلتهم مدبّرة، عندها تتراجع احتمالية أن تترتّب على الحدث أيّ مفاعيل سياسية، بالنظر إلى أن شرط تلك النتائج أن تدرك القيادة الإيرانية أن ثمة خطوة تخريبية، وأن تعدّها كمؤشّر إلى مسار من الاعتداءات المتواصلة، في حال لم تتراجع عن ثوابتها.
أمّا عن توظيف ما جرى ضدّ النظام، فهو بدأ سريعاً من قِبل أعداء إيران وأنصار المعسكر الغربي – الإسرائيلي، من دون أيّ أدلّة حاسمة على كون التفجير مدبّراً أو نتيجة أسباب أخرى، إلى حدّ بدا معه هؤلاء وكأنهم يمتلكون معلومات خاصة حول أسباب الواقعة والمواد والشحنات التي جرى الحديث عنها بخصوصها.
وعلى أي حال، وإذا ما أخذنا بفرضية العمل الأمني الإسرائيلي، يبدو مستبعداً تنفيذ مخطط بهذا الحجم وفي توقيت حساس، بمعزل عن التنسيق المباشر مع إدارة دونالد ترامب. لكن، مع أو من دون ذلك التنسيق، فإن الحدث يتجاوز بنتائجه الحسابات المادية والاقتصادية، فيما يستبطن بذاته رسائل لعلّ من أهمها أنه ينبغي أن يكون بداية مسار بديل من فشل المفاوضات.
كما تتعاظم مخاطره في حال حاول العدو استغلاله عبر الإيحاء بأن إيران مردوعة تجنّباً لردّ فعل أميركي أشدّ خطورة؛ إذ إنه يتساوق في هذه الحالة، مع المفهوم الذي روّج له العدو في مشاوراته مع الإدارات الأميركية المتعاقبة، ومفاده أنه في حال شعرت إيران بوجود إرادة أميركية حقيقية في استهداف منشآت النظام الاقتصادية والأمنية، بما يهدّد وجوده، فإنها ستبدي استعداداً للتراجع عن الكثير من ثوابتها النووية وغير النووية؛ وذلك بالاستناد إلى محطّات في تاريخ البلاد، اضطرّت معها إلى التكيُّف مع الضغوط والمتغيّرات، علماً أن السيناريو المشار إليه يتجاوز التحوّلات التي استجدّت على قدرات إيران العسكرية والصاروخية، وكونها أصبحت دولة عتبة نووية، وأن العِلم النووي هو وطني إيراني لم يَعُد في الإمكان شطبه.
ولعلّ من مخاطر فرضية «التكيّف الإيراني» مع أيّ مسار عدواني، أنها تمنح إسرائيل هامشاً أوسع في مواصلة اعتداءاتها وتصعيدها أيضاً، ما سيوجِد عقبات جدّية في سياق المفاوضات.
وبخصوص فرضية أن يكون هدف الانفجار تخريب المفاوضات الحالية لحسابات إسرائيلية، فإنها في ظلّ ترامب، وفي هذه المرحلة تحديداً، مستبعدة، وإنْ كانت على المستوى النظري تبقى احتمالاً قائماً. وأياً يكن، فإن آفاق الحادثة وتداعياتها، مرتبطة خصوصاً بالقراءة الإيرانية لها والموقف الذي سيُبنى عليها. وفي خلاصة أولية في هذا الإطار، يمكن القول إن من شأن ثبات إيران على مواقفها النووية وغير النووية، أن يعطّل جانباً أساسياً من رسائل التفجير وأهدافه السياسية، وأن يضع تل أبيب وواشنطن أمام تحدّي القرارات البديلة المفتوحة على التصعيد أو التكيّف مع السقف الإيراني وثوابته. وفي حال تبنّي خيار الضغوط أو الردود الأمنية والعسكرية، من قبل أيٍّ من الطرفَين، عندها يصبح اللعب على المكشوف، ما يضع العملية التفاوضية ومستقبل الوضع في المنطقة أمام سيناريوات أشدّ خطورة.
علي حيدر – الاخبار