27 نيسان 2025
سعدي الشيرازي، شاعر “اللحظة السعيدة” في عصر الدم والنار؟

وصفوه بأستاذ الغزل العاشق، ومعلّم المحبة والنور. كلماته كانت حلوة على مسامع الخاصة والعامة على حد سواء. إنه معلم اللغة الفارسية، فلطالما تعلم الأطفال على مرّ الأجيال الفارسية من خلال كلماته، واقتبسوا من «كلستانه» و«بوستانه» صفحات من الحكمة والمعرفة. وإن كانت الحياة أيامًا معدودات، فإن كلماته تملك حياة خالدة، كما قال هو بنفسه: “أنا سعدي آخر الزمان.”

مشرف‌ الدين مصلح الشيرازي، من أعظم شعراء وكتّاب إيران، تُعدّ آثاره الخالدة جزءًا من كنوز الثقافة الشعبية في عصره. وقد عُرف سعدي، أو كما يُشتهر بين الناس بـ«الشيخ سعدي»، بألقاب متعددة: “أفصح المتكلمين”، “ملك الكلام”، و”الشيخ الإمام المحقّق”. وكما كتب ذبيح‌ الله صفا، فإن هذه الألقاب أطلقت عليه بعد وفاته، ووردت في مؤلفات لاحقة. اسمه “مصلح”، ولقبه الأدبي “سعدي”. لم ترد في المصادر الموثوقة سنة ولادته، إلا أن ما كتبه في «كلستان» يرجّح ولادته نحو عام 606 هـ. أما وفاته، فقد قُدّرت ما بين عامي 690 و695 هـ.

لقد حظيت أعمال سعدي باهتمام واسع على مدى قرون، من قبل أهل الأدب والذوق الرفيع. وسعى كثير من الشعراء أن ينسجوا على منواله «بوستانًا» و«كلستانًا» خاصًا بهم، مستلهمين من رحيق كلماته قدر ما وسعتهم القدرة. وسُمع صدى اسمه الجميل منذ زمن بعيد – كما أشار هو نفسه في مقدمة «كلستان» – حتى كأن الأرض تناثر عليها فتات من البلور، وتدلّى عقد الثريا من هامته.

ومع ذلك، ففي العصر الحديث، لم تَعُد نظرة الباحثين إلى سعدي محصورة في الإعجاب والتقليد، بل أصبحت أحيانًا نظرة نقدية. ومن أبرز المواضيع المطروحة، موقف «الشيخ الأجل» من أحداث عصره. والسؤال المطروح: ماذا فعل سعدي، وماذا قال عن الوقائع التي عصفت بإيران والعالم الإسلامي من اجتياحات المغول ومجازرهم الوحشية؟

يرى بعض النقاد أن هذا يمثل «نقطة صمت» لدى سعدي، بل وذهب أمثال رضا براهني إلى اتهامه بالتساهل والمهادنة، بينما يرى آخرون، كسيروس شميسا، أن سعدي عبّر عن موقفه من هذه الأحداث بشكل غير مباشر، ويعتقد أن قوله في مقدمة «كلستان» بأنه كفّ عن الكلام وألجم لسانه، إنما هو ناجم عن خوفه من التعرّض للخطر بسبب آرائه السياسية. وهناك فئة أخرى من المفكرين، كالدكتور داوري، تذهب إلى أن ما قام به سعدي في عصره لا يقلّ شأنًا عمّا فعله الفردوسي في ملحمته.

كان العالم في عصر سعدي يواجه ظاهرة جديدة: اجتياح المغول للعالم. لم تقتصر الكارثة التي خلفوها على القتل وإسقاط الحكومات فحسب، بل يمكن وصف ما بعد المغول بأنه عصر دمار للبُنى الفكرية والثقافية استمر لعقود، وقد وصفه عطاملك جويني في كتابه “تاريخ جهانكشا” بشكل وافٍ. وفي ظل هذه الظروف، يرى بعض النقاد أن سعدي، بدلاً من الغزل والكلام عن الحب في وسط الدم والنار، كان ينبغي له أن يكتب ملحمة توازي “الشاهنامه”. لكن السؤال هو: لماذا لم يفعل؟

ما الذي نتوقّعه من سعدي؟
وفي حوار مع مراسل وكالة تسنيم قال كوروش كمالي سروستاني، أستاذ الجامعة ورئيس مركز سعدي للدراسات، مشيرًا إلى نظرة بعض المثقفين إلى شعر سعدي: “علينا أن ندرس سعدي في إطار القرن السابع الهجري وزمنه الخاص. إن بعض الناس يُقيّمون الشاعر وأعماله الكلاسيكية وفق معايير العصر الحديث، وهذا التزامن بين زمنين مختلفين يؤدي إلى نتائج خاطئة. يجب أن نطرح السؤال: ما كان عليه حال شيراز، وإيران، والعالم الإسلامي في القرن السابع في مواجهة الغزو المغولي؟ وماذا كان بوسع شاعرٍ في تلك الظروف أن يقول؟”

واعتبر أن انتقاد طريقة سعدي في التعامل مع غزو المغول يشبه، على سبيل المثال، توجيه اللوم إلى شاعرٍ بعد عدة قرون لأنه قال بيتًا مثل: “أحب شمس أرديبهشت”، في حين أن الظروف السياسية والاجتماعية المعاصرة لا تسمح بمثل هذا “التفاؤل”، على حد تعبيرهم.

وأضاف مدير مركز سعدي للدراسات: “لقد انتقد بعض المثقفين (وأظن من بينهم الدكتور علي شريعتي) بيت سعدي الذي يقول فيه في كلستان: (في هذه المدة التي كنا ننعم فيها بلحظات طيبة / كان عام 656 للهجرة)، فوجّهوا له اللوم متسائلين: كيف يتحدث عن “وقتٍ طيب” بينما كانت المغول تفتك بالبشر؟ بينما أرى أن هذه النظرة غير منصفة، ولا ينبغي أن نتناول الأعمال الكلاسيكية – مثل بوستان وكلستان والقصائد الغزلية – من هذا المنظور أو أن نحمّل شاعر ذلك العصر بتوقعات لا تخصّ زمنه.”

وتابع هذا الأستاذ الجامعي مستعرضًا شواهد من انتقاد سعدي للمغول، فقال: “سعدي أشار إلى هذه القضية في قصائده. ففي مرثية كتبها بمناسبة سقوط بغداد – باعتبارها رمزًا للخلافة الإسلامية، التي كانت تحظى بأهمية كبيرة آنذاك – تحدّث عن فتنة المغول، كما تطرّق في مواضع أخرى إلى دور الأتابكة في فارس في حماية شيراز من هجمات المغول. لم يُسمع عنه أنه امتدح المغول، بل تصرّف بوعي ومعرفة بواقع عصره، مدركًا مدى سفك الدماء الذي كان المغول يعدّونه من فنونهم، فاختار مسارًا يحفظ به حياة الناس من شرّ تلك الفتنة، ويُمهّد لولادة جديدة للثقافة الإيرانية.”

رسائل سعدي
يرى بعض الباحثين أن سعدي قد أوصل الشعر الفارسي إلى ذروته في مختلف المجالات، ما عدا شعر الملاحم أو ما يُعرف بـ”رزم‌ نامه”. إلا أن كوروش كمالي سروستاني يعتقد أن سعدي، لو أراد، لكان بوسعه أن يتألّق حتى في هذا الباب، ويقول: “إن هذا النوع من النقد يشبه تمامًا قولنا: لماذا لا نجد عند فردوسي قصائد غزلية؟ فهل كان فردوسي عاجزًا عن نظم الغزل؟ بالطبع لا، لكنه اختار أن تكون رسالته الحياتية هي الملحمة، لا الغزل. وكذلك الحال مع حافظ، هل كان غير قادر على كتابة النثر؟ أو مولوي، هل لم يكن بمقدوره نظم أشعار عن الحب الأرضي؟ كلا، فجميع هؤلاء الكبار امتلكوا القدرة والبيان، لكن ضرورات زمانهم وجّهتهم نحو رسائل مختلفة”.

وأشار الأستاذ الجامعي في حديثه إلى مكانة فردوسي في نظر سعدي، قائلاً: “لقد كان سعدي على معرفة بفردوسي، وأثنى عليه قائلاً: (ما أحسن ما قاله الفردوسي الطاهر النسب، فلترقد رحمات الله على مثواه الطاهر). كما أن سعدي استخدم قصص الشاهنامه في أعماله، غير أن زمنه لم يكن زمن ملاحم.”

عصر بزوغ الحكمة الإيرانية
وأكّد كمالي سروستاني على ضرورة مراعاة الإطار التاريخي عند تقييم أعمال الشعراء، وقال: “إن الحفاظ على الهوية القومية كان الإنجاز الأعظم لفردوسي، ولكن إذا ما قارنّا القرن الرابع بالقرن السابع، سندرك أن الحُكم حينها كان بأمسّ الحاجة إلى حكمة سعدي. ومن هنا، فقد استفاد سعدي من الحكايات والرموز الإيجابية والسلبية في الشاهنامه – مثل ضحّاك وأنوشيروان – ليُجري من خلالها خطابًا حكيمًا. لذا يمكن القول إن سعدي، كما أنشأ فردوسي الملحمة الإيرانية، فقد أرسى هو الحكمة الإيرانية، وهما يكملان بعضهما البعض في مسار الثقافة الإيرانية المشتركة.”

وأشار هذا المؤلف إلى أن ملامح “حكمة فردوسي” تجلّت لاحقًا في بوستان سعدي، كما أشار إلى أن الشعر الملحمي لم يكن رائجًا في زمن سعدي، قائلاً: “لم يكن من المجدي آنذاك الاشتغال بهذا النوع من الشعر؛ فكما أن الملاحم التي أُلّفت زمن القاجار لم يكن لها أثر باقٍ أو تأثير يُذكر، كذلك كانت الحال في زمن سعدي، إذ لم يكن لهذا النمط من الأدب حيوية تواكب واقع المجتمع.”

اللغة الفارسية تدين لسعدي
وعند سؤاله عمّا إذا كان سر عبقرية سعدي يكمن في كونه لم يكتفِ باتّباع آثار السابقين، قال كمالي: “إن سرّ خلود الشعراء الكبار يكمن في عناصر متعددة، منها هذا الجانب تحديدًا. فكما كان سعدي مدينًا لفردوسي، فإن اللغة الفارسية كذلك أصبحت من بعده مدينة له، حتى أنه يمكن تقسيم تاريخ الأدب الفارسي إلى مرحلتين: قبل سعدي وبعده.”

وأضاف: “بخلاف فردوسي وسعدي، لا يُعدّ بقية الشعراء من صُنّاع اللغة. فبعد فردوسي، أصبحت اللغة الفارسية – تلك اللغة العذبة، القومية، الشعبية، والبطولية – لغة معقّدة، وابتعدت عن الأرض نحو السماء، ومن الواقع نحو الذهن. وهنا جاء سعدي ليُعيد هذه اللغة إلى الأرض، وليُجدّد الأساطير الإيرانية في زمنه.”

وختم قائلاً: “نعم، إن لغة مولوي وحافظ وسواهما جزء لا يتجزأ من ثقافتنا، وسُلّم يصعد بنا نحو السماء، لكن التأثير الحقيقي على اللغة الفارسية في التاريخ الأدبي يعود إلى فردوسي وسعدي، حتى إن الفارسية التي ننطقها اليوم، متجذّرة في لسان سعدي.”